الذكاء الاصطناعي وشريك الحياة- بين المواصفات الآلية والحنين إلى النكد الإنساني

المؤلف: نجيب يماني09.24.2025
الذكاء الاصطناعي وشريك الحياة- بين المواصفات الآلية والحنين إلى النكد الإنساني

يا له من زمن عجيب، ويا له من ابتكار بديع، أيها الذكاء الاصطناعي الفذّ القادر، لو أنّك ظهرت للعيان قبل عقود مديدة، تحديدًا قبل خمسين عامًا، لكنّا أمسّ حاجة إليك، وأشدّ تعلقًا بك!

وها أنت اليوم تقتحم الحياة الشخصية، وتخترق الحواجز الخفيّة، وتتوغل في تفاصيل حياتنا، حتى في اختيار شريكة العمر، لتهمّش دور "الخاطبة" التقليدية، وتضع "المجتمع" أمام تحدٍّ جسيم لتطوير مفهوم "النظرة الشرعية" بما يتماشى مع الواقع المتغير، بل لقد بلغت من "الجرأة" مبلغًا أن تنتقي لنا الزوجة المثالية، وفقًا للمواصفات والطلبات المحددة!

إنّ الذكاء الاصطناعي يتيح اليوم للباحثين عن شريكة حياة فرصة فريدة للعثور على الزوجة التي تطيب بها النفس، ويستأنس بها القلب، وذلك عبر مسارين متاحين وفقًا للميل والرغبة، ففي "الخيار الأول" يكفي أن تسجلوا الخصائص التي تتمنونها، سواء كانت شكلية، نفسية، أو اجتماعية، ولا ضير في الاستعانة بمن تشاؤون، فإذا كنتم من عشاق الكلاسيكية، فدونكم دواوين الشعر العربي الزاخرة بالوصف الدقيق للمرأة، والتي لم تترك لكم مجالًا للاختيار، فقد تعمقت في الوصف إلى أبعد الحدود، أما سمعتم قول الشاعر:

هِركَولَةٌ فُنُقٌ دُرمٌ مَرافِقُها

كَأَنَّ أَخمَصَها بِالشَوكِ مُنتَعِلُ

إِذا تَقومُ يَضوعُ المِسكُ أَصوِرَةً

وَالزَنبَقُ الوَردُ مِن أَردانِها شَمِلُ

وكأنّ شاعرًا آخر استوحى منه، فأضاف إلى هذا الوصف رونقًا وبهاء:

غَرَّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُها

تَمشِي الهُوَينى كما يَمْشِي الوَجِي الوَحِلُ

كَأنَّ مِشْيَتَهَا مِنْ بَيْتِ جارَتِهَا

مَرُّ السَّحابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ

تَسمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إذا انصَرَفَتْ

كمَا استَعَانَ برِيحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ

لا تطلبوا مني تفسير هذه الأبيات؛ فالشرح في هذا "السياق" قد يشوش على الخيال، ويطمس الأفق، فدعوني وشأني، وانتقلوا إلى المسار الآخر إذا كنتم من محبي العصرنة والرومانسية، ومن عشاق "الجمال الباريسي" والهيام والعشق الملتهب، سجلوا في "قائمة الطلبات" قول الشاعر:

ما ضَرَّ لَو أَنَّكَ لي راحِمُ

وَعِلَّتي أَنتَ بِها عالِمُ

يَهنيكَ يا سُؤلي وَيا بُغيَتي

أَنَّكَ مِمّا أَشتَكي سالِمُ

تَضحَكُ في الحُبِّ وَأَبكي أَنا

اللَهُ فيما بَينَنا حاكِمُ

أَقولُ لَمّا طارَ عَنّي الكَرى

قَولَ مُعَنّىً قَلبُهُ هائِمُ

يا نائِمًا أَيقَظَني حُبُّهُ

هَب لي رُقادًا أَيُّها النائِمُ

وبعد أن تستوفوا كافة الشروط، وتستغرقوا الوقت الكافي لتسجيل الخصائص والرغبات، أرسلوا بها إلى عالم الذكاء الاصطناعي.

وتأكدوا أنه في اللحظة ذاتها، قد استقبل أطيافًا من مواصفات مماثلة، كتبتها أخريات يبحثن عن قرين يوافق أذواقهن، وهنا يتدخل الذكاء الاصطناعي، بحسابات دقيقة، وتقديرات لا تكاد تخطئ، ليقترح عليكم ما تصبون إليه، ويبعث إليكم وإليهن بما تشتهون، آملًا أن "يوافق شن طبقة"، لتبدأ بعدها مرحلة "الاختيار البشري"، والمضاعفات التي نعرفها جميعًا، فالذكاء الاصطناعي لا يضمن لكم حياة سعيدة، أو استمرارًا لنمو الخصائص المطروحة، ومدى مصداقيتها، وخلوها من "الزيف" والتجميل والتصنع، وهنا مكمن الخديعة، وعقدة الإشكال، وتعود بنا دورات حياتنا التعيسة!

لكن الذكاء الاصطناعي تنبه إلى هذا الأمر، فقدم الحل في "النموذج الثاني"، حيث يتولى هو بنفسه "تصنيع الزوجة"، عبر "روبوت" يجسد لكم ما تطلبونه وترغبون فيه، شكلًا ومضمونًا وأهدافًا غير محدودة بأي سقف، أو مقيّدة بأي مانع، نموذج يتطابق تمامًا مع رغباتكم الجامحة.

وخلاصة القول: زوجة خالية من النكد، ومستوفية للطلبات، من طراز "أقبلي فتقبل" و"أدبري فتدبر"، طوع اليد، عذبة اللسان، سليمة القلب، تمتلكونها بكامل حريتكم، وإن لم تكفكم واحدة، فلا حرج في التثنية والتثليث والتربيع، والتوسع في ملك اليمين من هذه "الجواري الاصطناعيات"، وأنتم في مأمن من شر "الضرائر"، وحينها ستضحكون ملء أشداقكم على ذلك الشقي الذي قال:

تَزَوَّجْتُ اثنتينِ لِفَرْطِ جَهْلِي

بِمَا يَشْقَى به زَوجُ اثْنتينِ

فقلتُ أصيرُ بينهما خروفًا

أُنَعَّمُ بين أَكْرَمِ نَعْجَتَيْنِ

فصِرْتُ كَنَعْجَةٍ تُضْحِي وتُمْسِي

تُدَاوَلُ بينَ أَخْبَثِ ذِئْبَتَيْنِ

رِضَا هَذِي يُهَيِّجُ سُخْطَ هَذِي

فَمَا أَعْرَى مِن إحْدَى السُّخْطَتَيْنِ

وأَلْقَى في المعِيْشَةِ كُلَّ ضُرٍّ

كَذَاك الضُّرُّ بينَ الضَّرَّتَيْنِ

لهذي ليلةٌ ولتلكَ أُخْرى

عِتَابٌ دَائِمٌ في الليلَتَيْنِ

غير أنني على يقين تام بأنّ هذا العيش الرغيد، والطاعة "الاصطناعية" المطلقة، التي تحقق كل الرغبات دون اعتراض أو امتناع، ستؤدي إلى الملل، وسنحنّ إلى "نكد" المرأة اليومي وتقلبات مزاجها بآدميتنا المولعة بالتناقضات الجميلة، فلا يستطيب لنا الوصال إلا إذا عانينا الهجر ولوعته، ولا نهنأ بحبيب إلا إذا مارس علينا كل أنواع الدلال والتمنع وإخفاء المرغوب، وفي ذلك مكمن الرغبة، وموطن الفرح، تصديقًا لقول الشاعر:

فَقَدْ يُشْرَبُ الصَّابُ الكَرِيهُ لِعِلَّةٍ

وَيُتْرَكُ صَفوُ الشهْدِ وهو مُحَبَّبُ

وَأَعدلُ فِي إِجْهَادِ نَفْسِيَ فِي الَّذِي

أُرِيدُ وَإِنِّي فِيهِ أَشْقَى وَأَتْعَبُ

هَلِ اللُّؤْلُؤ المَكْنُون وَالدُّر كُلهُ

رَأَيْتَ بِغَيْرِ الغَوْصِ فِي البَحْرِ يُطْلَبُ

وَأَصْرِفُ نَفْسِي عَنْ وُجُوهِ طِبَاعِهَا

إِذَا فِي سِوَاهَا صَحَّ مَا أَنَا أَرْغَبُ

ولكن الحياة سائرة نحو حقبة تختلط فيها الأمور، وتضطرب فيها المسلمات، وتتصادم الأقاويل، وما من شيء إلا وسيخضع للاختبار، وقريبًا سيأتي اليوم الذي تصلك فيه "الزوجة" المنشودة "دليفري /‏‏ delivery" حسب الطلب، ومطابقة للمواصفات.. فإلامَ نحن قادمون معك أيها الذكاء الاصطناعي المثير للرعب والدهشة..!؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة